الصين تعزز صعودها في 2020 وتؤثر في توازنات العالم
تتجه حركة التطور الصينية الهائلة في المجالات التجارية والصناعية والعسكرية صوب احتلال الموقع الأول في النظام الدولي ومزاحمة الولايات المتحدة الأمريكية في موقع القطب الأوحد في العالم.
وعلى امتداد عام 2020، الذي شهد استفحالاً لوباء كورونا وخدمت تداعياته بعضاً من أهداف بكين، ظلت العلاقات بين القطبين موضع اهتمام الخبراء وتقاطعت المواقف وتباينت حول مستقبل العلاقة بينهما، فضلاً عن حدود الصراع، والمخاوف من «حرب كونية»، على اعتبار أن الرهان الصيني كبير، ومن شأنه أن يؤثر في توازنات القوة، وما يستتبع ذلك من تغيرات جذرية ستضرب كل المجالات.
وأمام الاندفاعة القوية للصعود الصيني على الساحة الدولية أضحى البعض يتحدث عن إمكانية وصول هذا البلد العملاق إلى قمة النظام العالمي وأطلق البعض على القرن الحالي «القرن الصيني» وتشير التوقعات إلى أن الصين سوف تصل لقيادة النظام الدولي بحلول 2025، بينما يذهب البعض إلى أن ذلك سوف يتحقق في منتصف القرن الحالي.
وقد يكون ذلك أقرب من ذلك التاريخ؛ إذ يتضح أن الاقتصاد الصيني حقق نسبة نمو هذا العام على الرغم من تداعيات «كوفيد-19»، بينما تغرق الولايات المتحدة والاقتصادات الكبرى في أزمة عنيفة، لا شك أنها ستؤثر في المؤشرات خلال السنوات القليلة المقبلة.
قوى جديدة بعد انهيار السوفييت
قاد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 إلى فتح آفاق جديدة أمام العديد من القوى كالاتحاد الأوروبي والصين واليابان والهند لتلعب أدواراًَ أكثر فاعلية في النظام العالمي الجديد، لكن حيوية الدور الصيني على الساحة الدولية كانت الأكثر بروزاً، الأمر الذي حفز بعض المحللين إلى توقع أن يبلغ هذا البلد القمة ويصبح القوة الأولى في النظام العالمي بحلول عام 2050.
ومن بين أهم الأسباب التي ساعدت في البروز الصيني على الساحة الدولية، أن الصين هي الأولى عالمياً من حيث الموارد البشرية والرابعة عالمياً من حيث المساحة بعد روسيا وكندا والولايات المتحدة. وهي الأولى عالمياً من حيث معدل سرعة النمو الاقتصادي وتمثل حالياً ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية والقوة الاقتصادية الأولى في الاحتياطي النقدي الأجنبي.
وتمتلك الصين أضخم جيش في العالم تسانده قوات احتياط ولديها ثاني أكبر ميزانية للدفاع بعد الولايات المتحدة وتمتلك موقعاً استراتيجياً يربط شرق آسيا بشرق أوروبا وتتحكم أيضاً بعدد من طرق الملاحة البحرية والجوية والبرية. كما أن الصين هي القوة النووية الثالثة بعد الولايات المتحدة وروسيا وهي واحدة من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي وتمتلك قيادتها السياسية رغبة شديدة في الوصول لقيادة النظام العالمي.
أبعاد الصعود الصيني
هناك مجموعة من العناصر يجب توافرها في أي دولة حتى تستحق لقب القوة العظمى. ويرى هانز مورجانثو مفكر العلاقات الدولية أن القوة الشاملة للدولة يعبر عنها من خلال تسعة عناصر هي: العامل الجغرافي والموارد الطبيعية والطاقة الصناعية والاستعداد العسكري والسكان والشخصية القومية ونوعية الحكم والروح المعنوية ونوعية الدبلوماسية. وطبقاً لهذه العناصر فإنه يمكن تصنيف الدول إلى فئات عدة أبرزها الدول العظمى مثل الولايات المتحدة والقوة الصاعدة مثل الصين والهند واليابان والاتحاد الأوروبي، والقوة الثانوية مثل المملكة المتحدة وفرنسا ومتوسطة مثل أستراليا وكندا ومعظم الدول الأوروبية.
ويتم هذا التصنيف طبقاً لمحددات تتمثل في القوة الاقتصادية والقوة العسكرية، وهل الدولة قوة نووية أم لا، وكذلك أيضاً القدرات البشرية والعلمية والتكنولوجية للدولة وثرواتها الطبيعية والمعدنية. فمن الناحية العسكرية يعد النظام الدولي أحادي القطبية تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية. ومن الناحية الاقتصادية فالنظام الدولي يعد متعدد الأقطاب فإضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية فإننا نجد دولاً صاعدة بقوة كالصين والهند.
التنافس الأمريكي – الصيني
مع مطلع القرن الحادي والعشرين، شهد النظام العالمي تحولات في ميزان القوى الدولية، وبزوغ قوى دولية جديدة تتنافس على المكانة الدولية بعدما منيت الولايات المتحدة الأمريكية بالفشل في حربها في أفغانستان والعراق، وتأكد ذلك بعد تصدع النظام الرأسمالي العالمي بقيادة الولايات المتحدة بعد الأزمة المالية العالمية. وأصبح النظام العالمي يتوجه نحو قيادة التنين الصيني كقوة عظمى.
وقد أدى ذلك إلى تغيرات في طبيعة العلاقات بين القوي الرئيسية في هذا النظام، وفي مقدمتها العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين. وحدوث تغير في الخطاب العام الصيني تجاه الولايات المتحدة الأمريكية بعد الأزمة المالية العالمية، والتعامل معها بشكل أكثر ندية. كما تشكل العلاقات الأمريكية الصينية نموذجاً يجمع بين الصراع والتعاون الحذر؛ إذ تمتلك كل منهما أبعاد وعناصر القوة، فالولايات المتحدة بوصفها القوة العظمى الوحيدة في العالم، تريد الاحتفاظ بالهيمنة على النظام الدولي، والصين بثقلها الديموغرافي والاقتصادي والسياسي والعسكري المتزايد، تعمل من أجل الوصول لقمة النظام الدولي خلال منتصف هذا القرن.
فلسفة تفادي المواجهة
بالتزامن مع تسارع النمو الصيني، وانفراد الولايات المتحدة بالقيادة العالمية طيلة عقد التسعينات بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، بدأت أصوات أمريكية تتحدث عن الاستعداد لمواجهة الخطر الأصفر، الأمر الذي دفع القيادة الصينية لتبني استراتيجية تفادي الصدام العسكري مع الولايات المتحدة.
وتأتي هذه النظرية كاستراتيجية طمأنة للمجتمع الدولي بأن عودة الصين وصعودها للساحة الدولية كأحد اللاعبين الرئيسيين لن يهدد هيكلة أو أمن النظام الدولي كما يحصل عادة عند بروز قوى جديدة أو إعادة صعود قوى قديمة.
عندما تمت صياغة مفهوم «الصعود السلمي» بداية هذا القرن، كان الصينيون يعتقدون أنهم يحتاجون إلى 45 عاماً على الأقل حتى يصلوا إلى أن يكونوا دولة كبرى في النظام الدولي.
لكن الانتقال السريع للقوة من الغرب إلى الشرق في الثروة وفي النفوذ في السنوات الماضية؛ أدى إلى حرق سريع للمراحل بدأ يؤثر في معادلة الصعود السلمي خصوصاً وأنه تزامن مع التسارع في انحدار القوة الأمريكية بوتيرة أسرع مما كان متوقعاً أيضاً.
إغراءات القوة
أوجدت حالة الصعود الصيني السريع والانحدار الأمريكي السريع بشكل أكبر من المتوقع لدى الطرفين، نوعاً من الثقة الزائدة لدى بعض الشرائح الصينية.
وتشير الوقائع إلى أن أبرز المتأثرين بالنشوة وشعور القوة في الصين هم الجنرالات؛ إذ سبق أن دعا العقيد في الجيش الصيني «ليو مينغفو»، إلى أن تتخلى الصين عن تواضعها وأن تتحدى الولايات المتحدة على الزعامة العالمية.
وتحدث العقيد، وهو أستاذ في الكلية العسكرية أيضاً، بشكل مكشوف عن هدف الصين الكبير في القرن الحادي والعشرين في أن تصبح القوة رقم واحد في العالم، وأن الوقت الآن مناسب جداً لتحقيق هذا الهدف، على اعتبار أنه «إذا لم تتمكن الصين في القرن الحادي والعشرين من أن تكون الرقم الواحد في العالم وأن تكون القوة العظمى فإنها ستصبح حتماً مهمشة»، وأن التنافس بين البلدين إنما هو صراع حول من يسقط ومن يصعد للهيمنة على العالم.
طريق الحرير.. ربط الأسواق بالتنمية
يعكس مشروع طريق الحرير العملاق «رأس الرمح» في استراتيجية الصين للهيمنة واحتواء ممرات التجارة العالمية.
ويعود تاريخ الطريق القديم إلى القرن الثاني قبل الميلاد، ويشير الاسم إلى شبكة الطرق البرية والبحرية التي ربطت بين الصين وأوروبا مروراً بالشرق الأوسط بطول يتعدى عشرة آلاف كيلومتر.
أما الطريق الجديد فهو مشروع صيني عملاق تشارك فيه 65 دولة تريد الصين من خلاله تسريع وصول منتجاتها إلى الأسواق العالمية بما في ذلك آسيا وأوروبا وإفريقيا. لكن وسط تنامي نفوذ الصين والشكوك (الغربية) حول نواياها، عبَّرت دول أوروبا وأمريكا عن قلقها ازاء هذا التطور.
وهذا الطريق بالفعل تحاول به الصين السيطرة على طرق التجارة الدولية، حيث تصبح عبر هذه المبادرة شريكاً رئيسيّاً لحوالي 65 دولة يمر بها الطريق من خلال ازدهار الأسواق الناشئة وتطوير إطار عمل البنية الأساسية الحديثة للنقل والطاقة والتكنولوجيا.
كما يعمل هذا المشروع على تمكين الصين من توريد البضائع بشكل أسرع وأرخص من ذي قبل، وهو ما سيصعب المنافسة في الكثير من المجالات.
مستقبل البقاء في الدول النامية
ترتكز علاقة الصين بإفريقيا على قضية الموارد الطبيعية والمشاركة المربحة للطرفين في التجارة والتنمية، وبالشرق الأوسط حول مصادر الطاقة والتجارة والاستثمار، وهي تسعى لتحقيق أهدافها عبر استراتيجية القوة الناعمة، بتقديم مساعدات في مجال التنمية والانخراط في استثمار واسع النطاق في قطاعات تترواح بين الطاقة والبنية التحتية والتطوير العقاري.
ولا تخفي الصين أن اهتمامها الأول بالمنطقة ينصب على الاقتصاد، كما يتضح في «ورقة السياسة العربية» الصادرة في 2016، والوثائق التالية حول مبادرة «الحزام والطريق». وساعدت الصين إفريقيا في تنفيذ ما يربو على 900 مشروع، تشمل خطوطاً للسكك الحديد وطرقاً وجسوراً ومستشفيات، خلال الأعوام الخمسين الماضية، وخصتها ب 312 قرضاً بقيمة 4.4 مليار دولار.
وعلى الصعيد السياسي فإن الصين تدعم فكرة وجود نظام متعدد القطبية في العالم، وكذلك في إفريقيا والشرق الأوسط، وأن يرتكز بناء الاستقرار على أساس «السلام من خلال التنمية» والذي يركز على أولوية التنمية على الإصلاح السياسي، والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي على الديمقراطية السياسية. وتوضحت هذه الفكرة أكثر مع رفض الصين للغزو الأمريكي للعراق في 2003، وكذلك في نمط التصويت في العديد من قضايا المنطقة، مثل رفضها لكافة القرارات التي حاولت بها المجموعة الغربية إعادة سيناريو التدخل الأممي في سوريا.
وهي تسعى لتعزيز مشاركتها على طاولات التفاوض وحل النزاعات. وبدأت في العام 2016 محاولة التوسط لحل النزاع السوري من خلال مبعوثها للسلام في الشرق الأوسط شيه شياون، مع دعم جهود المبعوث الأممي.
وفي الخلاصة فإنه بالإمكان القول إن مستقبل الدور الصيني في الدول النامية يتحدد على أساس مدى اتساع وتجذر مصالحها الاقتصادية والسياق السياسي والأمني المحيط بها.
وبهذا قد يتخذ هذا الدور مساراً من بين عدة مسارات أبرزها الهيمنة والتدخل المباشر وهو سيناريو مستبعد على المدى المنظور، وقد يتخذ هذا الدور أيضاً مسار الانخراط أكثر في الاستثمارات والمشروعات العابرة للحدود أو شكل تقاسم النفوذ بين القوى السياسية في المنطقة والقوى الدولية ذات النفوذ والتأثير.