شخصيات تعيش في فوضى
التطور سمة ملازمة للكتابات الأدبية، ويكمن جوهر الممارسة الإبداعية في مواصلة التغيير، الذي يلازم الإبداع في العربية «الإتيان على غير مثال سبق»، ما يعني أن كل عمل إبداعي هو تطور عن الأعمال السابقة، في الشكل والمحتوى، وفي التقنيات والبُنى .
ومن ضمن العناصر التي تطورت في مسار تاريخ الإبداع، مفهوم «البطل» الذي يمكن تعريفه بأنه الشخصية الرئيسية للعمل الأدبي، الذي جرى توسيعه من المعنى الكلاسيكي القديم إلى التصورات الحداثية وما بعدها.
اعتاد القدماء على تسمية الشخصيات الشهيرة في الأساطير والملاحم البطولية مثل «جلجامش» و«الإلياذة» و«بيوولف» و«أنشودة رولان»، بالأبطال، وقبل أن يقطع المفهوم شوطاً طويلاً من كلاسيكية «أوديب» و«أوديسيوس»، مروراً ب«هاملت»، وصولًا إلى «ويلي لومان» بطل مسرحية «موت بائع متجول» لآرثر ميلر.
يمكن القول إن بطل مسرحية ميلر، التي كتبها نهاية الأربعينات، إحدى بوابات مرور البطل المهمش العادي إلى متن الكتابة الأدبية، ذلك العادي الذي يستطيع مواجهة ضغوط العالم الحديث، مع الإقرار بالضعف البشري في النهاية والوصول إلى الانتحار، لكن بعدما تأكد أن «كل فرد يمكن أن يصبح بطلًا»، واحد من العاديين الذين بلا ملامح أو سمات بطولية تقليدية، والمستضعفين الذين وضعوا في ظروف استثنائية، تجبرهم حينها على التصرف ببطولة.
ولم يعد البطل مشاركاً في مغامرات أو حروب خطِرة، ولم يعد هو الشخص الذي يمتلك قدرات عقلية وجسدية غير عادية، ويمر بحوادث واختبارات قدرية لينتهي به المطاف بالانتصار أو الموت، إنما غدا المفهوم معقداً حيال تعريف الأزمات التي تمر بها الإنسانية، فموظف بسيط يتحول بطلًا يبرز المشكلات النفسية الحديثة المعقدة التي يواجهها الإنسان في عالمنا الحالي.
تغيير السياقات
لا تغيير في ملامح البطولة دون تغيير في السياقات التي تناولتها الأعمال الأدبية، فثمة جملة من المتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية أدت إلى حساسية جديدة في التعبير الفني، وخلقت نمطاً من التفكير غير الميتافيزيقي بالعالم، الأمر الذي نتبينه في كتابات إيتالو كالفينو وجون بارث، ودونالد بارثلم، وروبرت كوفر، وجون هوكس، وهي الكتابات التي أدرجها الروائي والناقد الأمريكي ما بعد الحداثي البارز وليم جانس ضمن ما يعرف بالحداثة المتأخرة، فيما أطلق عليها الروائي الأمريكي جون بارث، كتابات ما بعد حداثية.
وفي دراسة له بعنوان: «النقد الشكلاني للرواية»، ذهب الناقد الدكتور صلاح السروي، إلى أن الرؤية الحداثية، بخاصة رؤية البنيويين، تعاملت مع الشخصية باعتبارها عنصراً أيديولوجياً لا يستحق الاهتمام أكثر منه كحقيقة أدبية، وبدلاً من ذلك ركزت البنيوية على الأنساق التي تتجاوز الفرد وتجعل منه مجرد عنصر يمكن إدراجه ضمن جملة الوقائع، أكثر من كونه جوهراً فرداً، الأمر الذي دفع بعضهم إلى القول إن البطل غير ضروري للقصة، وأن القصة باعتبارها نظاماً من الوظائف، بإمكانها أن تستغني تماماً عن البطل وعن قسماته الخاصة.
وفي إطار هذه السياقات، بدت الشخوص الرئيسية أو الأبطال، مشغولة بالصراعات المعرفية مرة، أو الإشكاليات ذات الطبيعة الوجودية مرة أخرى، حسبما نتبين في أبطال مؤلفات صموئيل بيكت، وكارلوس فوينتس، وفلاديمير نابوكوف، وروبرت كوفر، وتوماس بنجن. وشهدت الرؤية الفنية انقلاباً تمثل في الانتقال من البناء والتركيب إلى التفكيك والاختلاف، وإلى التفسير العقلاني باللاعقلاني. كما تمثل على مستوى النقد الأدبي في الانتقال من البنيوية إلى ما بعدها، التفكيك، لتظهر على سطح الرؤى الإبداعية؛ بل في قلبها، الكثير من المعطيات الجديدة، كان أبرزها وأهمها إقصاء الإنسان/المؤلف، واستبدل مصطلح التأويل بالمعنى المحتمل في اللفظ، والتفسير بالكشف عن معنى الخطاب.
إذاً، مر المسار الفكري الإنساني بسياقات دفعته إلى تقسيم العالم إلى بؤر عدة مشتتة وغير مترابطة، ولم يعد أمام المبدع سوى اللحظة الراهنة ليتعامل معها هو وشخوص أعماله الخيالية، وغدت الوظيفة الوحيدة للفنان والأديب هي المحاكاة الساخرة لمسار البحث العبثي عن معنى للعالم، بأسلوب مستعار غير أصيل ولا شخصي، وبعملية تقترب من اللعب واللهو العابث أكثر مما تقترب من الإبداع، فالفوضى عارمة، والمعنى غائب، والعبث هو المنطق الذي لا يمكن تجاوزه في هذا العالم، حسبما نتلمسه مع أبطال توماس ستيرن، وفرانس كافكا، وخورخي لويس بورخيس.
الثيران الهائجة
في السنوات الأخيرة، زاد تطوير وتنوع المنصات الرقمية والوسائط في مجتمعنا على نحو واسع، ولا شك في أن الاستخدام الموسع للإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وتلفزيون الواقع قد غيّر المجتمعات برمتها، شرقية وغربية، وأحدث تحولًا يمكن أن يكون إيجابياً في جانب وسلبياً في جانب آخر.
كما يمكن للمرء أن يجادل بأن الرقمنة في مجتمعنا قربتنا على نحو أوضح، وجعلتنا أكثر وعياً بالعالم الذي نعيش فيه كما سهلت من عمليات التواصل. بدلًا من ذلك، يمكن القول إنها جعلت من الصعب على نحو متزايد انتقاد مصادر المعلومات، كما أن الاستخدام المطول للآلات، أدى إلى نزع الصفة الإنسانية بشكل ما، وبغض النظر عن وجهتي النظر التي قد يدعمها المرء، من الآمن القول إن الوسائط والمنصات الرقمية تؤثر بشدة في طريقة حياتنا.
ومع الدخول إلى عصر الرقمنة، أو بالأحرى عصر استعمال الرقميات، حلت الكتابة الأدبية كواحدة من العناصر التي تتأثر بما يفرضه العصر الجديد، وارتبط الاستهلاك بخلق وإنتاج الإحساس بالذات، وانتقلت المنتجات من دورها الوظيفي إلى أن تصبح حاملة المعنى الاجتماعي، بالتالي اختلفت صورة البطل، أو لنقل صورة الفرد في الكتابات الأدبية المعبرة عن الواقع الراهن وتناقضاته.
ومع هذا العالم المفكك، غير المترابط، سيطرت فكرة رفع قضايا الحياة الواقعية إلى ظروف خيالية على أغلب الإنتاج الأدبي باللغات شتى، وعمل المؤلفون على تمكين القارئ من التفكير في مشكلات الراهن على نحو مختلف ومغاير لما كان سائداً في حقبات سابقة، من خلال تجلي رؤى إروس وليامز، التي ترى بضرورة هدم وحرق مكتبة تاريخ المعرفة الإنسانية، أي الانقطاع التام عمّا سبق، باعتباره المَخرج الممكن من أزمة إنسان العصر.
هنا، يضيء بريق خاص يومض بضرورة نسف القديم، فتنطلق الشخصيات الرئيسية في الكتابات الإبداعية كالثيران الهائجة، التي أطلقها عصر الشك الشامل من مرابطها، تحطم كل ما تصادفه، فلا شيء معتمد، ولا شيء موثوق، ولا شيء مقدس؛ الأمر الذي يفسره الفيلسوف الفرنسي جان بودريار من خلال «التبادل المستحيل»، بمعنى «أن لا يقين العالم لا يمكن مبادلته بشيء».
عالم مزيف
في ضوء «العالم المزيف» المكون من صور مختلقة ركزت على انتفاء المعنى والقيمة والحقيقة، وأصيبت العلامات بالسيولة، وبدا تحديد دور الشخصيات داخل العمل الفني مسألة يمكن الاستغناء عنها، ويرى جون أليس، أن علامة لا يمكن تحديدها بشيء مبين لا تدل على شيء على الإطلاق، كما ولد الغموض في العلامات اختزالًا للمعنى وليس إثراءه، والغموض الكامل واللاتحديد المطلق نطقتان نصل عندهما إلى العدمية، وتصل الإنسانية برمتها إلى اللاشيء.
هنا طرحت الأعمال الأدبية عبر «أبطالها» أسئلة تتعلق بإشكالية التخييل والواقع، مع النزوع نحو إثارة الشك في طبيعة تصوراتنا عن الواقع وعمّا هو حقيقي وقائم بذاته خارج حدود الخطابات التي تشكل ثقافتنا ووعينا، ورفض الثقة المطلقة والبداهة الساذجة التي تتشكل منها تلك التصورات، خاصة بعدما باتت التقنية أداة للهيمنة على الإنسان، واستبدلت بحداثة الحرية والإخاء والمساواة، حداثة النخبة المتعقلة والمحدثة على بقية العالم، وذلك بواسطة تنظيم التجارة والمصانع والاستعمار.
مقاومة
في إطار مقاومة ما بعد الحداثة، وما تفرضه الرؤية على تصورات المبدعين عن العالم وشخوصه معاً، يأتي الروائي الأمريكي الشهير ديفيد فوستر والاس، ضمن قائمة الداعين إلى تجاوز ما بعد الحداثة وتقنياتها المحدودة، والتحريض العملي على فضح أوهام ما بد الحداثة ونزعتها الاستهلاكية، وعلى الرغم من شهرة والاس كونه روائياً ما بعد الحداثة، فإنه قدم في مجموعته «الفتاة ذات الشعر الغريب» شخوصاً تعمل على تجاوز ما بعد الحداثة وتناقضاتها، بخاصة عندما استدعى في إحدى قصصه شخصية الأمريكي جون بارث.
ومع تبين تعقيدات ما بعد الحداثة، أصبح الإنسان لا يدرك ذاته على نحو مستقل، بالتالي استحالة إدراك الذوات الأدبية المتخيلة لأنفسها، وسعت الذات الإنسانية جاهدة إلى ترويض العالم، وجعله بكل كائناته مقيساً بالقياس الإنساني. بعد هذا كله، ظهرت نزعات كتابية تهتم بالشخصية البطل، وتسعى إلى خلق نوع من التعاطف والتواصل بين القارئ والشخصية المتخيلة، وما تمر به من أزمات، أو تتخذه من مواقف، وتخطت هذه النزعات تقنيات التغريب وكسر الألفة التي وظفت على نطاق واسع في كتابات ما بعد الحداثة.
تقليد عربي
عربياً، وعلى الرغم من سيطرة سلطة التقنيات الرقمية على حياة الناس، فإن الملاحظ هو ازدهار الكتابات الأدبية التي تهتم بالقصة والحبكة التقليدية، متخلية عن تعقيدات التقنيات ما بعد الحداثية، ربما في محاولة لتحقيق الوضوح، وإبراز الترابط المنطقي في البناء الدرامي. وبعد أن سيطرت في التسعينات نزعات الكتابة غير «التشويقية» التي لا تعنى كثيراً ببناء صراع درامي تصاعدي، برز مجدداً سيل من الكتابات التي تولي الشكل والنظام والترتيب اهتماماً كبيراً، وتركز غرض «الأبطال» على بحث جوانب التجربة الإنسانية وطبيعة المواقف الوجودية.
وانتشرت هذه الكتابات على نحو واسع تحت دفع دور النشر وبعض المؤسسات الثقافية، وتكريس أغلب الجوائز للنصوص التي تعادي «اللا- نظام»،.
بقلم : مدحت صفوت