سوق المعاني المستعملة
بقلم : محمد زكي
عندما توقف الشاعر الفرنسي آرثر رامبو عن الكتابة، قرر عدم العودة إليها، فقد قال ما لديه، وهو في سن العشرين، وبات عليه البحث عن طريق لا علاقة لها بالكتابة، بعد ما تعطلت ماكينة الأفكار، فأدار ظهره إلى أوروبا، واتجه شرقاً، حيث الصحارى التي لوّنت جبهته، ومنحته مغامرات وتجارب إنسانية لم تجد صدى لديه، ومن ثم لم تأخذ طريقها إلى الكتابة.
هذا الحس يفتقده كُتّاب كثيرون، يكررون أنفسهم، أو تأخذ كتاباتهم منحنى هابطاً. وقد توقف نجيب محفوظ عن الكتابة فترة طويلة، في أعقاب ثورة 23 يوليو 1952؛ لأن المناخ الذي كان يكتب في ظله تغير، وبالتالي تبدلت نظرته للكتابة، الوحيد الذي توقف عن وعي قائلاً إنه «لم يعد لديه ما يضيفه» هو يحيى حقي، على الرغم من صعوبة أن يتوقف المبدع عن الكتابة، لمجرد إحساسه بأنه يدور في دوائر بعينها، أو يكرر نفسه، بشكل أو بآخر.
كل مبدع لديه مجموعة من الرؤى والتجارب أو المنطلقات التي تأخذ شكل الصدارة في عمله الإبداعي، لا يغيرها، وتظل مهيمنة على مجالات الرؤية وحالات الإبداع لديه، وفي حالة نضوب الأفكار، قد نجد من يستمر في الكتابة متغاضياً عن فكرة «تكرار نفسه»، لمجرد أن يشعر بأنه لم يزل حياً، فهل يصدر الكاتب في كل أعماله عن فكرة واحدة، يدور حولها ويلف بأساليب مختلفة؟.
مأزق
هل من الممكن أن تقوم ثقافة بأكملها على ظاهرة «التكرار»، وكأن قوس الإبداع قد أغلق نفسه على مجموعة من الجمل والصياغات. الشعراء العرب القدامى انتبهوا مبكراً إلى هذا المأزق، فهل يظل الكاتب أسيراً لمجموعة من الأفكار تتردد أصداؤها من وقت لآخر في إبداعاته، وتأتي في مناسبات قد تتباعد بينها المسافات، وتختلف بها السبل؟.
الشعراء والأدباء العرب كانوا يُدركون ذلك جيداً، لذلك بعد أن نال عنترة حريته، واعترف أبوه به، نظم معلقته الشهيرة التي يتفاخر فيها بفروسيته، وبدأ القصيدة بالسؤال عن الشعراء الذين لم يتركوا موضعاً لكتابة الشعر إلا وكتبوا فيه: «هل غادر الشعراء من متردم/ أم هل عرفت الدار بعد توهم؟».
وحسبما كتبه د. حسن مدن في أحد مقالاته ، فإن البحتري حين كان يأخذ من أبي تمام، كان يحوّر في مبنى ما أخذه من حيث الموسيقى والأصوات، وفي معناه من حيث التفكير وفلسفة المعاني، وهذا يتسق مع مقولة الشاعر الفرنسي بول فاليري: «إن الأسد ليس إلا مجموعة خراف مهضومة».
هل تتغير الأفكار من جيل إلى آخر؟ كتب التراث والأدب القديمة تؤكد أنها كلها أفكار، تدور في أذهان الأدباء والكتاب، منذ أن بدأت علاقتهم بالكتابة والشعر، بعد أن وقفوا أمام الأطلال، وعبروا عن أنفسهم، وقد عبر الجاحظ عن ذلك قائلا: «إن المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، البدوي والقروي».
هناك أيضاً زهير بن أبي سلمى الذي قال: «ما أرانا نقول إلا معاراً/ أو معاداً من قولنا مكرورا»، فهل كرر زهير ما قاله عنترة؟، أم إنه أدرك فجأة أن منبع الأفكار واحد، وأن ثيمات الكتابة معروفة ومحددة، كل ما في الأمر هو كيف نتناولها؟
هذا هو مأزق كل شاعر وكاتب، كلما فكر في أن يكتب نصاً جديداً، يكتشف أنه لم يقل إلا ما قيل فعلاً، وثمة من يرى أننا بالفعل نعيد كتابة ما كُتب، لكن الأهم في النهاية هو كيف نعيد صياغة المعاني في نصوص جديدة.
تنبؤ القارئ
في مقال تحت عنوان «الأدباء الشباب والملاحظة»، أشارت الكاتبة فاطمة البريكي إلى أن بعض الأدباء يُحسن عملية التقاط الأفكار المهمة الجديدة والمبتكرة، بحيث يقدم في كل نص فكراً جديداً، ومعنى عميقاً، وموقفاً حقيقياً وجاداً إزاء قضية ما. وفي الوقت نفسه، يوجد عدد غير قليل من الأدباء الذين لا يستطيعون أن يقدموا جديداً يُذكر على ما سبق وأن قدموه في نصوص سابقة، ومن الممكن أن يتنبأ القارئ مسبقاً بما سيقرأ، بمجرد أن يرى اسم الأديب، لعلمه أنه لا يأتي بجديد، وربما لا يحرص على ذلك. من الطبيعي هكذا ترى البريكي أن يتساءل المرء عن سبب هذا التباين بين الكتاب والأدباء والمبدعين، وعن غلبة ثيمات معينة على مجموعة الكتّاب الذين تجمعهم بيئة مكانية وزمانية متشابهة، مع أن المفروض أن يقدم كل منهم تجربته الخاصة به، النابعة من ذاته ومن حقيقة انفعاله وتفاعله مع العالم الصغير أو الكبير من حوله.
توضح أن السر يكمن في مهارة خاصة يمتلكها بعض الأدباء ويُحسنون استخدامها وتوظيفها، ويفتقدها البعض الآخر، أو يمتلكونها لكنهم لا يُحسنون توظيفها، وهذه المهارة قد توجد بالفطرة لدى بعض الكتاب، ولكن اكتسابها ليس مستحيلاً؛ بل يمكن الزعم بأنه سهل وممكن. وقد تحدث عدد من الأدباء اللامعين في بعض الفنون الأدبية عن طرائق اكتساب هذه المهارة التي يُطلق عليها مهارة «الملاحظة».
إن قدرة الكاتب على ملاحظة الأشياء من حوله، سواء الكبيرة أو الصغيرة، المألوفة أو الغريبة، الواضحة أو الخفية، الظاهرة أو الباطنة، هي الحد الفاصل بين كاتب وآخر، وهي السر الذي يجعل نصوص بعض الأدباء متجددة، لتصبح العملية الإبداعية وكأنها عملية ولادة حقيقية ومستمرة لكائن جديد في كل مرة، ويجعل نصوصاً أخرى لكتاب آخرين مكرورة ومعادة، لتبدو العملية الإبداعية وكأنها عملية اجترار لمخزون موجود سابقاً، لا يحسن الأديب إلا إعادة تقديمه للقراء في صورة أعمال قتلها التكرار، خاوية من الجدة والعمق في الطرح، وفي طبيعة المضامين التي تنطوي عليها، بحيث لا يكاد يختلف عمل عن آخر، إلا في العنوان.
خيانة الأصل
على هذا النحو أو ذاك قد نجد أنفسنا أمام سؤال: هل يمكن أن تكون هناك سوق للأفكار المستعملة، يبدو معها القديم كالجديد؟ هذا السؤال يطرحه الكاتب العراقي علي البزاز، مؤكداً أنه تتم الإشادة بالفكرة الأصلية دائماً، في حين لا توجد فكرة أصلية أصلاً، الأفكار إما مستعملة فقدت قابلية التجدد، وإما مستعملة صالحة للاستعمال، والكتابة أيضاً، إما مستعملة، وإما صالحة للاستعمال.
يقول البزاز: «لا توجد كتابة أصلية مطلقاً، وإن وجدت افتراضاً، فإن الأصول تخون نفسها، كما يقول بورخيس، وكان هناك اعتقاد سائد قديم لدى بعض الأدباء العرب، أن الكتابة الجيدة إعادة إنتاج لنصوص سابقة، وعلى هذا فإن «التكرار» كان سمة أسلوبية لدى المفكر العراقي علي الوردي، والتكرار هنا يقصد به الإعادة المجردة للأفكار التي يطرحها في مناسبة، ويعيدها في مناسبات أخرى.
ويتوقف الكاتب العراقي حسين سرمك، أمام الأفكار التي طرحها الوردي في محاضرته، عن شخصية الفرد العراقي سنة 1951، ويحلل الموضوعات الأساسية التي تضمنتها، وبقي الوردي مخلصاً لها مدى الحياة، ولم يقم بأكثر من توسيعها وإغنائها وإثرائها بالشرح والمناقشات والبراهين.
في تلك المحاضرة موضوعات مثل: الشخصية البشرية وتكوينها، وقصور العقل البشري، والازدواجية، وأطروحات ابن خلدون، والأحلام والتنويم المغناطيسي، والعصبية القبلية، وهذه الموضوعات هي التي أخذ الوردي يعيدها في كتبه المختلفة، وبعضها طرحه في محاضرته كأفكار سريعة، لكنه قام بتوسيعها لتشكل مؤلفات مستقلة. ففكرة الازدواجية وغيرها، توسعت لتشكل كتاب «دراسة في طبيعة المجتمع العراقي»، وفكرة الأحلام والتنويم المغناطيسي والإيحاء أشبعها بحثاً في كتابه «الأحلام بين العلم والعقيدة»، وهكذا ظل جوهر الأفكار كما هو لم يمسه التغيير.
المشكلة أن الكثير منها طُرح بنفس المصطلحات والجمل والعبارات، وكأن صفحات كاملة نقلها الوردي من كتبه القديمة. ويقول البزاز إن هذا التكرار لا يعود إلى فقر معرفي، أو إلى ضعف في ملاحقة المتغيرات الاجتماعية والثقافية في العراق والوطن العربي والعالم، فالوردي هو صاحب المكتبة التي تضم أكثر من خمسين ألف كتاب ومخطوطة، وكان حريصاً على متابعة أغلب ما ينشر في الصحف العامة والمتخصصة في داخل العراق وخارجه، ويبذل جهوداً كبيرة للحصول على مصادر ومراجع صدرت حديثاً.
التكرار فكرة قد تأخذ بعداً أو منحى فلسفياً، ففي «الحوار اللامتناهي» يتساءل المفكر موريس بلانشو: «من ذا الذي سيولي عنايته لقول جديد، قول لم يُقل؟ ليس المهم أن نقول، وإنما أن نكرر القول»، وفي كتابه «الكتابة والتناسخ» يكتب الناقد المغربي الكبير عبد الفتاح كيليطو: «عند بداية الشعر كان هناك اهتمام بالتكرار والتقليد، في فجر التاريخ العربي نُلفي رجوعاً إلى فجر سابق، إلى أصل وأساس، فجر مضى وامحى، ولم يخلف إلا بعض الآثار، الظاهر أن الشعراء الأقدمين لم يأتوا على قول كل شيء، وأنهم تركوا بعض البقايا».
يتساءل كيليطو: «ما قيمة الكلام الذي لا يقلد ويردد؟ ألا يولد الاختراع الذي لا ينطوي على أي قدر من التقليد، سوى غريب الكلام؟». وبعد أن يورد إشارة ابن رشيق للمقولة التي ينسبها إلى علي بن أبي طالب: «لولا أن الكلام يُعاد لنفد»، يعلق كيليطو: «لا وجود للكلام إلا في تكراره وتقليده واجتراره لكيلا يجفّ النبع، ينبغي أن يسيل.. الكلام الذي لا يجتر نفسه يكون عرضة للفقر والجمود فيفنى جوعاً وهجراناً، التقليد راعي حياة الكلام وجوهره، كلما أعدنا الكلام ورددناه نما وازدهر، التقليد الذي يقتل الكلام هو الذي يبعثه ويُحييه، في البدء كان التكرار».
عشق الخفي
هل كل تقليد تكرار بالفعل؟ يجيب عبد السلام بن عبد العالي قائلاً: إن الفلسفة المعاصرة، ابتداء من هيجل تقوم على فكرة أساسها «أن ما يواجهنا اليوم إنما هو قديم مخبأ في التاريخ». هذه مسلمة نكاد نعثر عليها عند أغلب المفكرين المعاصرين، فمعظمهم يفترض، سواء عبر عن ذلك بصريح العبارة أم اكتفى بالإيماء إليه، أن ما يحدث في الحاضر، وما يصدمنا ب«جدته»، إنما هو في الحقيقة اتصال بشيء قديم جداً كان خفياً.