مزاج القارئ غيــر رصيــن
بقلم: مدحت صفوت
في عام 2019، فجّر مركز «بيو» للأبحاث الأمريكية مفاجأة، بالإعلان عن نتيجة استطلاع رأي كشف عن أن نحو ربع البالغين في الولايات المتحدة «27 %» لم يقرؤوا كتاباً كلياً أو جزئياً في 2018، سواء كان مطبوعاً أو إلكترونياً أو صوتياً. ساعتها بيّن الاستطلاع أن نسبة الأمريكيين الذين لم يقرأوا كتباً خلال العام أصبحت أعلى مما كانت عليه قبل عقد تقريباً، على الرغم من وجود بعض التقلبات خلال هذه الفترة الزمنية؛ حيث لم تكن نسبتهم تتجاوز 19 % في عام 2011.
حسب دراسة استقصائية أجريت 2015، أقرت الشريحة العمرية السابق الإشارة إليها بأهمية المكتبات في مجتمعاتهم، وذهب البالغون ذوو الأصول الإسبانية والسود والأسر ذات الدخل المنخفض والبالغون الذين تتراوح أعمارهم بين 30 وما فوقها، إلى أن المكتبات المحلية تقدم لهم ولعائلاتهم الخدمات على نحو جيد للغاية.
حزمة أسئلة
المفتتح الذي بدأنا به الحديث، قد يتصوره البعض مفتتحاً تشاؤمياً عن تراجع معدلات القراءة، وسكب دموع الحسرة عن غياب القارئ، أو بالأحرى، غياب قارئ الكتب «الجيدة» المعتمدة. وعلى النقيض يمكن أن نلج من خلالها إلى طرح تساؤلات بشأن معرفة الكُتّاب والناشرين على السواء بالقارئ الذي يسعون إلى تقديم منتجهم له، ويمكن الاستفادة من هذه الأسئلة كتمرين ثقافي، يساعد على استنطاق الموضوع لمحاولة الإمساك بتلابيبه، والوقوف أمام الوظيفة التي تقوم بها الكتابة في المجتمعات المعاصرة؟ وهل ازدهار أو إخفاق الكتابة مرتبط بأزمة النظام الرأسمالي وتناقضاته؟ أم أن الأمر خلاف ذلك؟ وهل هناك تشابه بين ازدهار الدور الثقافي بين مجتمعات الغرب المتقدمة، أي الرأسماليات المتقدمة، وبين المجتمعات الطرفية، أي رأسماليات الأطراف التابعة؟
الأسئلة السابقة على الرغم من عموميتها، لكنها قادرة على تفجير العديد من النقاط الفرعية، وتكثيف الموضوع بشكل لائق؛ إذ يتسم بصعوبة شديدة، نتيجة تعقد الظاهرة الثقافية، وتشابكها. وحسبما نرى، فإن دراسة دور الكتابة والثقافة المقروءة وصناعة النشر حظيت باهتمام غربي في كثير من الدوائر، والتخصصات المختلفة في العلوم الإنسانية، في ما لا يزال طرح مسائل القراءة وما يرتبط بها من معدلات وأرقام ومؤشرات وتوجهات، «خجولًا» في الأكاديميات والمراكز البحثية العربية.
رؤية ضيقة
عربياً، وفي دوائر الكتاب والمؤلفين، وبالطبع الناشرين، يكثر الحديث عن القراء وانحيازاتهم وتوجهاتهم القرائية، ويبدو الحديث مستنداً على مبيعات إصدارات هؤلاء المؤلفين أو أؤلئك الناشرين، التي يمكن ألا تعد مسوغاً حقيقياً عن عالم القراءة، بخاصة وأنها رؤية ضيقة محدودة المعطيات.
وفي ظل غياب الدراسات العلمية التي تبين توجهات القراء العرب، وسمات القارئ وانحيازاته المعرفية، التي يختار على أساسها العناوين التي يقرأها، عنيت مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم بالشراكة مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، منذ سنوات، بدراسة مؤشر القراءة في العالم العربي عام 2016.
وكشف التقرير وقتها عن أرقام مهمة، لم يستفد بها صناع النشر في كثير من البلدان، أهمها نفي ما يشاع لسنوات أن الفرد العربي يقرأ بمعدل 6 دقائق سنوياً بينما يقرأ الأوروبي بمعدل 200 ساعة سنوياً، وهي الصورة النمطية التي جرى تكريسها ربما لأهداف استشراقية، دون أن يحدد مرددو هذه العبارة على نحو ببغائي، أي شكل من القراءة يقصدون؟ فللقراءة وسائط كثيرة.
وحسب التقرير بلغ المعدل العربي لساعات القراءة سنوياً 35.24ساعة، وتراوحت الأرقام بين 7.78 ساعة في الصومال، التي تعد أقل معدل، و63.85 ساعة في مصر كأعلى معدل. فيما بلغ المتوسط العربي لعدد الكتب المقروءة سنوياً نحو 16 كتاباً في العام، وسجلت جيبوتي وجزر القمر والصومال أقل معدل في عدد الكتب المقروءة بما يساوي 1.76، بينما سجلت لبنان المعدل الأعلى بنسبة 28.6.
الأرقام السابقة تتقاطع مع نتائج تقرير «بريندان براون» حول عادات القراءة في العالم، الذي نشره موقع «جلوبال إنجليش إديتينج» 2017، وكشف عن احتلال مصر المرتبة الخامسة في حين احتلت السعودية المرتبة الحادية عشرة، في عدد ساعات القراءة، فالفرد في مصر يقرأ بمعدل 7.5 ساعة في الأسبوع بينما يقرأ الفرد بالسعودية بمعدل 6.8 ساعة.
من جهة ثانية، حلت الوسائط الإلكترونية في اكتساب المعرفة في مرتبة متقدمة، وأفادت نتائج المؤشر بتفوق القراءة الرقمية على الورقية، وبلغ المتوسط العربي لمنسوب القراءة الرقمية 19.45 ساعة أسبوعياً، الأمر الذي يتطلب منّا إعادة تعريف مفهوم القراءة، التي لم تعد قاصرة على الكتاب في صورته الورقية، وبتوسيع منظور الرؤية، لم تعد مختزلة في الكتاب بشقيه الورقي والإلكتروني.
ونشهد في العقود الأخيرة، ميل الأطفال والشباب والكبار على حد سواء إلى استخدام التكنولوجيا للحصول على المعلومات، بعد أن أدى ظهور الإنترنت إلى تغيير غير مسبوق في وسائط النشاط القرائي، وجرى تحويلها بشكل مختلف إلى مواقع الويب وصفحاته والكتب والمجلات والأوراق والرسائل الإلكترونية، وغرف الدردشة ومدونات المراسلة الفورية وغيرها.
وبسبب الاكتساح الكبير لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وظهور بدائل تبدو أكثر جاذبية من الوثائق المطبوعة، فضلًا عن سرعة انتشار الوثائق والكتب الإلكترونية، وسهولة الحصول عليها وقلة تكاليفها. اعتاد الناس على تصفح الإنترنت كعادة يومية، ونوع من الإدمان للجيل الجديد، على العكس من ذلك، ثمة أراء تشير إلى أن البعض لا يزال يعتقد أن قراءة الكتب، وليس تصفح الإنترنت، هي أفضل طريقة يمكن للمرء من خلالها السفر في عالم المعرفة والمتعة.
ويظل النشاط القرائي هو الوقود لتنمية الكتابات بشكل عام، بخاصة الكتابات الموجهة للجمهور العام، الذي يعيش جملة من المتغيرات العصرية والثقافية والاجتماعية بخاصة مع شيوع تصورات ما بعد الحداثة عن الإنسان وذاته وعلاقاته بالآخرين من جهة، وإعادة تعريف الفنون اللغوية والأدبية وتراجع دور الجمالي لصالح القيمي المادي، وتفضيل الكتابات التي تصيب «هدف المعنى» وقصدية الخطاب على نحو مباشر خال من الزخرف اللغوي واستعمال الاستعارات وما شابهها من تقنيات جمالية وبلاغية.
تشكيك في النتائج
في العالم الغربي، وبالبحث عن الدراسات التي تتوقف أمام أنماط التوجهات القراء، نجد كماً هائلًا من البحوث والاستطلاعات التي تكشف عن تفضيلات القراءة، وسمات أمزجة القراء، وتتنوع أدوات هذه الدراسات بين الاستبيان المباشر وتحليل أرقام المبيعات، مع الربط بينها والتكوين الاجتماعي للمكان قيد الدراسة.
بيد أن نتائج هذه الدراسات لا تسلم أحياناً من التشكيك فيها، استناداً على أنه بإمكان المرء معرفة ما يشتريه الناس من كتب بمجرد إلقاء نظرة على قوائم أفضل الكتب مبيعاً في «نيويورك تايمز»، لكن لا يعني هذا معرفة ما يقرأه هؤلاء الناس، نتيجة وجود فجوة في كثير من الأحيان بين ما نشتريه وما نهتم بقراءته فعلياً، وتدليلًا ذلك تساءل عدد من المهتمين بالشأن الثقافي في أمريكا «كيف يمكن أن تكون» «شفرة دافنشي» أكثر مقروئية من «أليس في بلاد العجائب»؟
لا يقلل التشكيك السابق من أهمية قوائم الأكثر مبيعاً أو الاستفادة منها في تحليل التوجهات القرائية، قياساً بغيابها شبه التام في العالم العربي، مما يجعل الحديث عن «مزاج القارئ» ضرباً من التخمين أكثر منه واقعياً.
اختلافات واضحة
وبطبيعة الحال، تختلف نتائج الدراسات بناء على الشرائح العمرية والفكرية للعينة المختارة، فتذهب الكاتبة الأمريكية المعنية بثقافة الوسائط الحديثة ماكنزي جان فيليب، إلى أن كتب الحركة «الأكشن»، والمغامرات هي الأولى في قوائم اهتمامات القراء الأمريكيين بخاصة الشباب.
فيما تحل الكلاسيكيات والكتب الهزلية أو الروايات المصورة في المرتبتين الثانية والثالثة في قائمة ماكنزي جان فيليب، التي تضم أيضاً الروايات والخيال التاريخي وأدبيات الرعب. بينما يميل الباحث مارك مارشينكو إلى وضع كتب السيرة الذاتية في المرتبة الأولى بقائمة اهتمامات الأمريكيين، تليها كتب الخيال العلمي والفانتازيا.
أما في العالم العربي، وطبقاً لمؤشر مؤسسة محمد بن راشد، فقد تغيرت القائمة وجاءت قراءة الكتب العامة في المرتبة الأولى بنسبة 28.5%، ثم الروايات بنسبة 20.55%، والمجلات المختصة بنسبة 20.21%، والصحف والقصص المصورة بالمرتبتين الأخيرتين بنسبة 17.06% و14.12% على التوالي، ومع ذلك تظل هذه النسب تتعلق فقط بالمرحلة الزمنية التي أجري فيها الاستطلاع، ما يعني ضرورة الاحتراز هنا بما طرأ من متغيرات على المزاج القرائي.
ومع تطور صناعة النشر منذ أكثر من عقد بقليل-بعدما كانت محصورة في المطبوعات الكتب التقليدية والصحف والمجلات، وتحولها إلى صناعة الكتب الإلكترونية والمدونات ومواقع الويب والتنسيقات الإلكترونية الأخرى- استحوذت القراءة عبر وسائط غير ورقية على جزء من ساعات القراء وطاقاتهم، ومن 148 ألف مشارك في استبيان تقرير مؤشر القراءة، أكد 21% منهم اعتناءهم بقراءة الكتب الإلكترونية فيما احتلت القراءة من الشبكات الاجتماعية المرتبة الأولى والمواقع الإخبارية المرتبة الثانية بسبتي 23.52% و23.02% على الترتيب.
سياق مغاير
في سياق مغاير، يعيش بعض الكتاب حالة من التعالي على توجهات القراء، أو من يعرفون ب«القراء الشعبيين»، بخاصة مع اكتساح الأدب الشعبي نظيره المصقول فكرياً، ويأتي المفكر والناقد الأمريكي الراحل هارولد بلوم كواحد من أشهر هؤلاء المنحازين للقيمة الأدبية، وللأدب «الرصين»، وإن رأى أنه يتوجب على القراء اتباع «غرائزهم» في اختيار النصوص التي يطالعونها، دون أن ينسى أن يحترز أن الغرائز تدفع بالمرء إلى مشكلات شتى، من بينها الوقوع في «فخ الابتذال».
اتهام مزعج
في حوار تلفزيوني له قبيل رحيله، أوضح الناقد هارولد بلوم أنه غير سعيد بما حققته رواية «هاري بوتر» من بيع ما يقرب من 35 مليون نسخة، وما كتبته عنها الدوريات الأمريكية في افتتاحياتها مثل «وول ستريت»، مؤكداً أنه لا يوجد شيء في الرواية يقرأ، فقط سلسلة لا منتهية من العبارات المبتذلة، وهو ما يعتقد أنه غير مفيد لأي قارئ على أي نحو، وردد «إنها مجرد تفاهة».
«بلوم» -الذي عُرف بكونه «طاحونة قراءة» يتمتع بذاكرة فوتوغرافية، والقادر على قراءة كتاب من 400 صفحة في ساعة، ومطالعة مسرحيات وليام شكسبير أو كتابات جون ميلتون في نهار- لم يخش أن يتهم ملايين القراء الذين لهثوا وراء مؤلف للكاتبة البريطانية «ج. ك. رولنغ» بأنهم على «خطأ» و«يجرون وراء الموضة»، ومن ثم يبقى كتاباً «مؤقتاً»، وتاريخ القراءة مملوء بالكثير من القمامة، على حد مفرداته.