
العراق بين التجاذبات الإقليمية: هل تبني بغداد سياسة خارجية متّزنة؟
هل ينجح العراق أخيراً في التحرر من التجاذبات الإقليمية؟ نحلل كيف تسعى بغداد بهدوء لرسم موقع مستقل ومتزن بين محاور القوة المتصارعة، وما هي مؤشرات هذا التغير في القرار العراقي.
1. إرث التجاذبات: عراق في مفترق طرق
منذ عام 2003، وجد العراق نفسه ساحة مفتوحة لتنافس المصالح الإقليمية والدولية. لم يكن أمام بغداد خيارات كثيرة سوى التكيف مع نفوذ القوى المحيطة (إيران، تركيا، ودول الخليج) والدول العظمى (الولايات المتحدة الأمريكية) هذا الوضع أفرز سياسة خارجية متقلبة، غالباً ما كانت تعكس توازنات القوى الداخلية والخارجية أكثر من أن تكون نابعة من استراتيجية وطنية خالصة.
لكن في السنوات القليلة الماضية، بدأت تظهر مؤشرات على رغبة عراقية متزايدة في بناء سياسة خارجية أكثر استقلالية وتوازناً. هذه الرغبة ليست سهلة التحقيق، وتتطلب موازنة دقيقة بين المصالح المتضاربة والتهدئة بين الأطراف.
💡 نقطة للتفكير:
هل يمكن لدولة محاطة بنفوذ إقليمي كبير أن تحقق استقلالاً حقيقياً في قرارها الخارجي؟
2. ملامح البحث عن الاتزان: استراتيجية "خفض التوترات"
تسعى بغداد اليوم إلى اتباع استراتيجية تقوم على "خفض التوترات" و"مد الجسور" مع جميع الأطراف، بدلاً من الانحياز الكامل لمحور واحد:
أ. دور الوسيط الإقليمي
لعب العراق مؤخراً دوراً بارزاً كـ وسيط في مفاوضات غير مباشرة بين قوى إقليمية متنافسة (مثل السعودية وإيران).
هذا الدور لا يعكس فقط حاجة هذه القوى لمنصة محايدة، بل يعكس أيضاً رغبة عراقية في استعادة جزء من مكانتها كلاعب إقليمي قادر على المساهمة في الاستقرار، وليس فقط التأثر بالصراعات.
* لماذا هو مهم؟
يسهم هذا الدور في بناء الثقة مع جميع الأطراف، ويمنح العراق مساحة دبلوماسية أوسع للتعبير عن مصالحه.
ب. إعادة التموضع الاقتصادي: "الكل شريك"
يدرك العراق أن قوته الاقتصادية هي مفتاح استقلاله. لذا، فهو يسعى إلى:
* تنويع الشراكات الاقتصادية: بدلاً من الاعتماد على مصدر واحد للدعم أو التجارة، تعمل بغداد على فتح الأبواب أمام استثمارات وعلاقات تجارية مع دول متعددة من الشرق والغرب.
* الربط الإقليمي: مشاريع مثل طريق التنمية (الذي يربط الخليج بأوروبا عبر العراق وتركيا) تعكس رغبة عراقية في أن يصبح مركزاً لوجستياً إقليمياً، مما يجعله شريكاً أساسياً للدول المجاورة بدلاً من مجرد ممر.
3. التحديات الداخلية والخارجية أمام سياسة الاتزان
رغم هذه المساعي، تواجه بغداد تحديات ضخمة:
أ. الانقسامات السياسية الداخلية
لا يزال المشهد السياسي العراقي يعاني من انقسامات عميقة وتأثيرات خارجية. أي قرار يتعلق بالسياسة الخارجية يجب أن يمر عبر توافقات صعبة بين فصائل مختلفة، بعضها له ولاءات إقليمية واضحة.
ب. النفوذ الأجنبي المستمر
النفوذ الإيراني والأمريكي والتركي في العراق ليس بالأمر الذي يمكن تجاهله أو التغلب عليه بسهولة. العلاقات الأمنية والاقتصادية والسياسية المعقدة تُبقي العراق تحت تأثير هذه القوى، مما يحد من مساحة المناورة.
ج. الأمن والاستقرار
لا يزال العراق يواجه تحديات أمنية داخلية، وأي ضعف في هذا الجانب يمكن أن يفتح الباب لتدخلات خارجية أو يعرقل تنفيذ خطط التنمية والاتزان.
4. هل ينجح العراق في بناء سيادته الخارجية؟ (الخلاصة)
إن سعي العراق لبناء سياسة خارجية متزنة هو رحلة طويلة وصعبة، تتطلب قيادة حكيمة وقدرة على الموازنة الدقيقة. لكن المؤشرات الحالية تدل على وجود إرادة سياسية نحو هذا الهدف.
الخلاصة:
إن نجاح العراق في هذا المسعى لن يكون مفيداً له وحده، بل سيساهم بشكل كبير في استقرار المنطقة بأسرها، التي هي بأمس الحاجة إلى لاعبين قادرين على تهدئة الصراعات ومد الجسور.