
الفوضى الخلّاقة والشرق الأوسط: قراءة سياسية في مسار الربيع العربي وإعادة تشكيل خرائط النفوذ
شهد الشرق الأوسط خلال العقدين الأخيرين واحدة من أعقد مراحل التحوّل السياسي في تاريخه الحديث، بداية من الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 وصولًا إلى موجة الاحتجاجات المعروفة بـ “الربيع العربي”. ومع كل حدث، برز مصطلح “الفوضى الخلّاقة” ليصبح أحد أكثر المفاهيم تداولًا في التحليلات السياسية والإعلامية.
غير أن السؤال الجوهري يظل قائمًا:
هل الفوضى كانت خطة لإعادة تشكيل المنطقة؟ أم نتيجة تراكمات سياسية واجتماعية انفجرت في لحظة مناسبة؟
هذا المقال يقدم قراءة متوازنة، بعيدة عن التهويل، لتفسير الفوضى في المنطقة وعلاقتها بإعادة توزيع النفوذ بين القوى الكبرى والإقليمية.
ما معنى الفوضى الخلّاقة؟
الفوضى الخلّاقة مصطلح سياسي يشير إلى فكرة أن **خلق اضطراب واسع قد يؤدي لاحقًا إلى بناء نظام جديد “أفضل”، أو على الأقل أكثر توافقًا مع مصالح بعض القوى.
ظهر المصطلح بشكل واضح في الخطاب الأميركي بعد 2003، مع الحديث عن “شرق أوسط جديد”.
لكن التجارب على الأرض أثبتت أن الفوضى في غالب الأحيان تدمّر الكثير قبل أن تُنتج أي “خلق” جديد.
العراق… بداية الانهيار الكبير
يعتبر العراق النموذج الأبرز لسياسات “إعادة تشكيل المنطقة”.
فبعد إسقاط النظام السابق، تم تفكيك الجيش والمؤسسات الأمنية بالكامل، ما فتح الباب لصعود جماعات متطرفة وظهور نفوذ إقليمي واسع.
النتيجة:
صراع داخلي طويل
انهيار مؤسسات الدولة
صعود المليشيات
تدخلات خارجية متشابكة
وبدل ولادة نظام جديد أكثر استقرارًا، شهد العراق موجة من الفوضى الممتدة حتى اليوم.
الربيع العربي… لحظة الانفجار
جاءت موجة الربيع العربي عام 2011 كأكبر زلزال سياسي في المنطقة.
ورغم أن الاحتجاجات كانت شعبية في جوهرها، إلا أن غياب مؤسسات قوية، وتدخل أطراف خارجية، وصراعات داخلية حادة، أدت إلى تحوّل بعض الدول من مرحلة “الثورة” إلى “الفوضى”.
في بعض الحالات:
سقطت أنظمة بلا بدائل جاهزة.
انهارت الجيوش أو انقسمت.
برزت قوى مسلحة غير نظامية.
أصبحت الساحات مفتوحة لصراع دولي وإقليمي.
وبذلك تحولت الفوضى من حالة مؤقتة إلى واقع سياسي جديد.
تركيا وإيران… صعود اللاعبين الإقليميين
أثناء تمدد الفوضى، وجدت قوى إقليمية كبرى فرصة لتوسيع نفوذها:
١) إيران
استثمرت في الفراغ الأمني الذي تلا سقوط العراق.
عززت نفوذها في سوريا ولبنان واليمن عبر جماعات محلية وعمق استراتيجي محسوب.
٢) تركيا
تدخلت في سوريا عسكريًا وسياسيًا.
تحركت في ليبيا عبر دعم أطراف معينة.
وسّعت حضورها في شرق المتوسط والقرن الأفريقي.
هذه التحركات أسست لمرحلة جديدة من توازنات القوى في الشرق الأوسط.
الولايات المتحدة وروسيا… صراع النفوذ من جديد
مع انشغال واشنطن في حروب متعددة، وجدت روسيا فرصة للعودة بقوة إلى المنطقة، خاصة عبر بوابة سوريا في 2015.
الولايات المتحدة حافظت على دورها، ولكن ليس كما كان في التسعينيات؛ فقد باتت تدير النفوذ من خلف الستار.
أما روسيا فأصبحت لاعبًا مباشرًا على الأرض.
هكذا تحول الشرق الأوسط إلى ساحة تنافس بين:
* واشنطن
* موسكو
* طهران
* أنقرة
* وفاعلين إقليميين آخرين
وكل طرف يسعى لاقتناص مساحة نفوذ وسط الفوضى.
الوقفة السادسة: هل الفوضى الخلاقة حقيقة أم خرافة سياسية؟
من خلال قراءة ما حدث في المنطقة، يمكن تلخيص المعادلة كالتالي:
✓ الفوضى قد تبدأ نتيجة تدخل خارجي أو سقوط نظام.**
✓ لكن تطورها اللاحق يعتمد على ضعف الدولة نفسها، وليس على “خطة” منظمة.
✓ القوى الكبرى قد تستغل الفوضى، لكنها لا تسيطر على نتائجها بالكامل.
وبالتالي، فإن “الفوضى الخلّاقة” ليست مشروعًا واحدًا بقدر ما هي **تداخل بين الأخطاء السياسية، والصراعات الداخلية، والمصالح الدولية، والانهيارات المتتالية للمؤسسات**.
الوقفة السابعة: مستقبل المنطقة… إلى أين؟
من الواضح اليوم أن:
* الدول ذات المؤسسات القوية استطاعت تجاوز الفوضى بسرعة (مثل مصر وتونس بدرجة أقل).
* الدول ذات الانقسامات العميقة دفعت أكبر ثمن (العراق، ليبيا، سوريا، اليمن).
* النفوذ الدولي والإقليمي يتغير، لكن المنطقة ما زالت في مرحلة إعادة تشكيل طويلة.
الشرق الأوسط يتجه نحو توازنات جديدة، قد يكون عنوانها:
**الدولة الأقوى هي التي تبني مؤسسات لا تنهار مع أي صدمة سياسية.**
الفوضى الخلّاقة ليست وصفة للنهضة، بل مسار محفوف بالمخاطر، غالبًا ما يفتح أبوابًا لا تُغلق بسهولة.
والدرس الأهم الذي قدمته التجربة العربية هو أن **الدول التي غابت عنها الرؤية والاستقرار المؤسسي دفعت الثمن الأكبر**، بينما تمكنت الدول التي تمتلك مؤسسات صلبة من تجاوز العواصف بأقل خسائر ممكنة.