الحكم والنهضة: مقاربة تحليلية لمسارات الإدارة في العالم العربي -->
عالم محير 83 عالم محير 83

الحكم والنهضة: مقاربة تحليلية لمسارات الإدارة في العالم العربي

 


الحكم والنهضة: مقاربة تحليلية لمسارات الإدارة في العالم العربي


الحكم الرشيد في عالم عربي متحوّل: مقارنة بين ثلاثة نماذج إدارية


البحث عن أفضل صيغة للإدارة 

يواجه العالم العربي والإسلامي تحدياً وجودياً يتمثل في اختيار أو تطوير نموذج الحكم الأمثل الذي يضمن الاستقرار، العدالة، والتنمية الشاملة. تتصارع في الساحة الفكرية ثلاثة نماذج رئيسية: نموذج الحكم الإسلامي (المرجعية الدينية)، نموذج الحكم العلماني (الفصل بين الدين والدولة)، ونموذج النمط المختلط (الذي تسير عليه معظم الدول حالياً). بدلاً من إصدار الأحكام المطلقة، سنقوم بتحليل كل نموذج من حيث المبادئ والتحديات التي يواجهها في سياقنا المعاصر. 

الوقفة الأولى: النموذج الإسلامي (الثيوقراطي/المرجعية الدينية) 

النموذج الإسلامي (أو الثيوقراطي)، هو الإطار الذي يجعل الشريعة الإسلامية هي المصدر الأوحد والأعلى للتشريع، ويهدف إلى تطبيق مقاصد الشريعة في كل مناحي الحياة.

  • نقاط القوة النظرية:

    1. الشرعية المستدامة: يستمد شرعيته من مصدر إلهي ثابت، مما يمنح النظام أساساً قوياً للثبات والقبول الشعبي الواسع في المجتمعات المتدينة.

    2. العدالة الأخلاقية: يهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية بناءً على قيم راسخة (مثل الزكاة وتحريم الربا)، والتي يمكن أن تقلل الفوارق الطبقية.

    3. الوحدة الثقافية: يعزز الهوية الثقافية والدينية المشتركة للأمة.

  • التحديات المعاصرة:

    1. مشكلة التفسير والتأويل: الخلاف على "التطبيق العملي" للشريعة في قضايا معاصرة (كالمال، التقنية، الحقوق)، مما يؤدي إلى صراعات بين التيارات الفقهية.

    2. حقوق الأقليات: التحدي في ضمان حقوق وحريات الأقليات غير المسلمة وفقاً للمعايير الدولية، مع الحفاظ على مرجعية الشريعة


الوقفة الثانية: النموذج العلماني (المدني/الفصل بين الدين والدولة) 

النموذج العلماني هو الإطار الذي يفصل المؤسسات الدينية عن مؤسسات الدولة والقانون، بحيث تكون المرجعية للقانون المدني والمواطنة المتساوية، بغض النظر عن المعتقد.

  • نقاط القوة النظرية:

    1. المواطنة المتساوية: يضمن المساواة الكاملة في الحقوق والواجبات لجميع المواطنين على أساس قانوني مدني بحت، دون تمييز ديني أو طائفي.

    2. المرونة التشريعية: يسمح بتطوير القوانين بسرعة لتواكب التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية العالمية دون قيود مرجعية دينية.

    3. جذب الاستثمار: يميل إلى إنشاء بيئة قانونية وإدارية مألوفة للمؤسسات الدولية والأجنبية، مما قد يعزز الانفتاح الاقتصادي.

  • التحديات في سياقنا العربي:

    1. الشرعية الشعبية: قد يواجه تحدياً في المجتمعات ذات الهوية الإسلامية القوية التي ترى في فصل الدين عن الدولة تخلياً عن الجذور والهوية.

    2. الـفراغ القيمي: قد يؤدي التراجع عن المرجعية الدينية إلى فراغ قيمي تستغله تيارات فكرية أو ثقافية قد تتعارض مع قيم المجتمع.


الوقفة الثالثة: النموذج المختلط (الوضع الراهن) 

هذا النموذج هو الأكثر شيوعاً في العالم العربي، حيث يتم الإعلان عن الإسلام كدين للدولة ومصدر رئيسي للتشريع، لكن التطبيق الإداري والمالي والقانوني يتبع في كثير من الأحيان قوانين مدنية حديثة (مستمدة من النظم الغربية).

  • وصفه: هو حكم يجمع بين لقب "إسلامي" وواقع "علماني وظيفي"، حيث تُستخدم المرجعيات الدينية في قضايا الأسرة والهوية، بينما تُستخدم القوانين الوضعية في الاقتصاد والسياسة الخارجية.

  • التحديات الرئيسية للنموذج المختلط:

    1. انفصام الهوية الإدارية: خلق حالة من عدم الاتساق بين المبادئ المُعلنة والممارسات الفعلية، مما يفتح الباب أمام النقد الداخلي والتشكيك في شرعية النظام.

    2. ازدواجية الخطاب: يستخدم هذا النموذج في كثير من الأحيان لغة دينية لتبرير سياسات ليست ذات أصل ديني، مما يؤدي إلى استقطاب بين المؤسسة الرسمية والشارع الديني.

    3. الجمود والتطور: يجد صعوبة في التطور بسبب الحاجة إلى الموازنة المستمرة بين الحفاظ على النص الدستوري (الإسلام مصدر التشريع) وضرورات التحديث (التي تتطلب مرونة مدنية).


 الميزان الحقيقي ليس في الاسم، بل في النتائج 

الخلاصة الجديرة بالاهتمام هي أن نجاح أي نظام حكم لا يكمن في اسمه (إسلامي، علماني، مختلط)، بل في قدرته على تحقيق ثلاثة أهداف جوهرية، وهي المعيار الحقيقي للحكم الرشيد:

  1. العدالة الشاملة: (ضمان حقوق الأفراد، مكافحة الفساد، تحقيق المساواة أمام القانون).

  2. الاستقرار السياسي: (الحفاظ على تماسك الدولة وسلامة مواطنيها).

  3. التنمية المستدامة: (بناء اقتصاد قوي ومجتمع متعلم ومزدهر).


إن التجربة التاريخية تعلمنا أن الأنظمة التي تسقط هي تلك التي تفشل في تقديم هذه الأسس الثلاثة، بغض النظر عن الإطار الأيديولوجي الذي تعلنه. التحدي أمام العالم العربي اليوم هو صياغة نموذج حكم مستمد من قيمه الأصيلة، ولكنه فعّال وناجع وقادر على مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين بمرونة وحكمة.


سؤال للنقاش والحوار:

في ظل التحديات العالمية الحالية وسرعة التغير التكنولوجي، هل يمكن تحقيق العدالة والتنمية الشاملة في العالم العربي من خلال تطوير "صيغة حكم محلية هجينة" تستفيد من مرونة النموذج المدني، مع الحفاظ على الثوابت الأخلاقية والاجتماعية للنموذج الإسلامي، أم أن أحد النموذجين يحتاج إلى ترجيح كفة الآخر بشكل حاسم؟

التعليقات

';


إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

جميع الحقوق محفوظة

عالم محير 83

2016